مناظرة هاريس ـــ ترامب: تباين واضح في الرؤى حول مستقبل الولايات المتحدة د. محمد حسن سعد

مناظرة هاريس ـــ ترامب: تباين واضح في الرؤى حول مستقبل الولايات المتحدة
د. محمد حسن سعد
في مناظرة يمكن وصفها بالعادية عُقدت في مدينة فيلادلفيا في 11 أيلول/سبتمبر 2024، اصطدم مرشح الحزب الديمقراطي، نائبة الرئيس كامالا هاريس، بالرئيس السابق دونالد ترامب، مرشح الحزب الجمهوري. وتعتبر هذه المناظرة، التي نظمتها شبكة “إيه بي سي”، بمثابة اختبار حاسم في السباق الرئاسي، حيث اجتمع المرشحان لعرض رؤاهما وتقديم حججهما حول مستقبل الولايات المتحدة، في وقت حساس يسبق الإنتخابات الرئاسية المزمع إجراؤها في تشرين الثاني/نوفمبر المقبل.
المواقف الإقتصادية: تباين في الأولويات والنهج
منذ بداية المناظرة، برز التباين الكبير بين هاريس وترامب في قضايا الإقتصاد، إذ قدمت هاريس رؤية الحزب الديمقراطي التي تركز على ما يمكن تسميه “إقتصاد الفرص”، حيث دافعت عن سياسات الإدارة الديمقراطية الحالية، التي تشمل تخفيف الأعباء الضريبية على الطبقة المتوسطة والعمال، ودعم الشركات الصغيرة، وتوفير الإسكان الميسر. وشددت هاريس على أهمية تعزيز العدالة الإقتصادية وتحقيق نمو إقتصادي شامل، في المقابل، انتقدت هاريس سياسات ترامب الضريبية، مشيرة إلى أن تركيزه انصب على إعفاء الأثرياء والشركات الكبرى من الضرائب، ما أدى إلى تفاقم العجز المالي.
ترامب من جهته، دافع عن سياساته الإقتصادية بفعالية، مشيراً إلى نجاح التعريفات الجمركية التي فرضها على الدول، خاصة على الصين، في زيادة الإيرادات وتقليل التضخم خلال فترة حكمه، كما ألقى ترامب باللوم على إدارة بايدن في تفاقم أزمة التضخم الحالية وتدهورها، مبرراً ذلك بسياسات الهجرة المفتوحة وانفلات القيود على الحدود، وإتفاقيات التجارة غير المتوازنة التي زادت من الأعباء الإقتصادية.
وعليه نرى ان هذه النقاشات تعكس التباين الواضح في الفلسفتين الإقتصاديتين للمرشحين، حيث تركز هاريس على المساواة الإجتماعية والعدالة الإقتصادية، بينما يستمر ترامب في الترويج للسياسات الحمائية والضرائب المخفضة على الاثرياء والشركات الكبرى، مما يعكس الفجوة بين رؤى المرشحين والحزبين لكيفية إدارة الاقتصاد الأمريكي واخراجه من دوامة التضخم الذي قد يؤدي إلى ركود كبير.
الهجرة وأمن الحدود: نهج متشدد مقابل مسار عملي
شهدت قضية الهجرة نقاشًا حاداً، حيث انتقدت هاريس سياسات ترامب المتشددة، مشيرة إلى ضرورة تبني حلول واقعية للتعامل مع القضايا الحدودية دون اللجوء إلى التشدد المفرط، ودافعت هاريس عن تحسين التمويل لأمن الحدود وتطبيق القوانين بفعالية، مع انتقادها لعدم قدرة إدارة ترامب على تمرير تشريعات داعمة لهذا المجال.
ترامب اتهم هاريس وبايدن بتسهيل دخول مجرمين خطرين إلى الولايات المتحدة، معتبراً أن أزمة الحدود هي مسألة أمن قومي وإقتصادي، كما افصح عن خطط لإطلاق أكبر عملية ترحيل جماعي في تاريخ البلاد في حال فوزه بالانتخابات الرئاسية، مشدداً على أن إدارته ستعالج أزمة الحدود بشكل أكثر حزماً.
وبدا واضحاً استمرار ترامب في استخدام لغة التخويف والترهيب حول قضية الهجرة التي تناسب قاعدته الإنتخابية المتشددة. أما هاريس، فقد حاولت تقديم نفسها كمرشحة قادرة على تحقيق توازن بين أمن الحدود والعدالة الإنسانية، مع التركيز على الحلول العملي التي بدت أقرب إلى كونها عناوين عامة منها إلى مضمون عميق يعكس القدرة على تجاوز القضية من خلال حلول فعالة وناجعة.
الإجهاض: صراع حول حقوق المرأة
تناولت المناظرة قضية حقوق الإجهاض، حيث هاجمت هاريس بشدة تعيينات ترامب في المحكمة العليا، معتبرة إياها محاولة لإلغاء حقوق المرأة في الإجهاض، وربطت هاريس الحظر المفروض على الإجهاض في بعض الولايات بسياسات ترامب “الصارمة”.
ترامب دافع عن دوره في إبطال قضية “رو ضد وايد”، مؤكداً دعمه لحقوق الولايات في تحديد قوانينها الخاصة بالإجهاض، لكنه نأى بنفسه عن أي دعوة لحظر الإجهاض على المستوى الوطني.
وبرأينا مثلت هذه القضية نقطة إنقسام رئيسية، حيث ظهرت هاريس كمدافعة عن حقوق المرأة وحرية الإختيار، بينما ركز ترامب على حقوق الولايات وإلغاء القوانين الإتحادية، مما يجعله أقرب إلى المحافظين والمناهضين للإجهاض.
السياسة الخارجية والأمن القومي: “الدبلوماسية الجماعية مقابل النهج الفردي”
في السياسة الخارجية، انتقدت هاريس ترامب لتمجيده الأنظمة “الديكتاتورية” وفق وصفها مثل روسيا وكوريا الشمالية، مشددة على أهمية تعزيز التحالفات الدولية، خصوصاً مع حلف شمال الأطلسي، وأعربت هاريس عن دعمها الكبير لأوكرانيا في حربها ضد روسيا، مؤكدة أن ترامب كان سيؤدي إلى سقوط كييف في يد روسيا لو كان رئيساً للولايات المتحدة.
ترامب رد على مقاربة هاريس بالتركيز على قدرته على إنهاء الصراع الروسي ـــ الأوكراني في غضون 24 ساعة، متهماً إدارة بايدن ـــ هاريس بانها تقف خلف إثارة النزاع من الأساس مؤكداً أنه يمتلك علاقات جيدة مع بوتين وزيلينسكي، مما يجعله قادراً على حل النزاع بكفاءة عالية.
وعليه بدا ان السياسة الخارجية شكلت مجالاً آخر للتباين بين المرشحين، حيث أظهرت هاريس التزامها بالتحالفات الدولية والدبلوماسية متعددة الأطراف، في حين ركز ترامب على شخصيته كقادر على إنهاء الصراعات من خلال علاقاته “الشخصية”.
كما استحوذت الحرب الإسرائيلية ضد غزة على حيزاً من مناظرة ترامب ـــ هاريس، حيث أعلن ترامب دعمه المطلق وغير المشروط والكامل “لإسرائيل”، مبرراً ذلك بضرورة حماية حليف رئيسي للولايات المتحدة في المنطقة، مشيراً أن إدارته قد نجحت في تحقيق السلام بين “إسرائيل” وعدد من الدول العربية من خلال اتفاقات أبراهام، وانتقد ترامب إدارة بايدن ـــ هاريس في تعاملها مع الصراع، مدعياً أن السياسة الخارجية الحالية تساهم في زيادة التوترات وعدم الاستقرار، مشيراً إلى ان “إسرائيل” ستزول من الوجود في حال فوز هاريس بالرئاسة.
بدورها، دافعت هاريس عن موقف إدارة بايدن، مؤكدة على أهمية دعم إسرائيل مع “احترام حقوق الفلسطينيين”، وتحدثت عن ضرورة العودة إلى المفاوضات والمساهمة في حل الدولتين كوسيلة لتحقيق سلام دائم، كما أكدت على ضرورة ممارسة الضغط الدبلوماسي على جميع الأطراف لضمان حماية المدنيين وتقليل العنف.
وعليه يمكن القول أن ترامب قدم رؤية واضحة وقوية تعكس إستراتيجيته الخارجية القائمة على دعم الحلفاء بشروطه وإضعاف خصومه وفق مقاربة متشددة تبرز الإنفرادية الأمريكية كنهج صارم في العلاقات الدولية. هذا الموقف يتماشى مع سياسات “أمريكا أولاً” التي مارسها ترامب خلال رئاسته، والتي تركز على تعزيز العلاقات الثنائية مع الدول الحليفة وتجاهل القضايا الإنسانية. فيما عكس موقف هاريس تعقيدات السياسة الخارجية الأمريكية التي اتبعتها إدارة بايدن ـ هاريس، والتي حاولت الايحاء بانها تعمل على تحقيق توازن بين دعم الحلفاء والحفاظ على المبادئ الإنسانية. وبالتالي، يعكس النقاش حول حرب غزة في المناظرة الرئاسية اختلافات أساسية في كيفية تعامل كل مرشح مع قضايا السياسة الخارجية وعلاقات الولايات المتحدة الدولية، مما يبرز نظرياً الفروقات بين الإستراتيجيات الجمهورية والديمقراطية في إدارة الصراعات والملفات والأزمات الدولية.
قضية تغير المناخ: طموحات خضراء مقابل التشكيك
فيما يتعلق بتغير المناخ، دافعت هاريس عن سياسات الإدارة الديمقراطية الحالية في دعم الطاقة المتجددة، معتبرة أن التحول نحو إقتصاد أكثر خضرة ليس فقط مهماً للبيئة، بل يشكل أيضاً فرصة لخلق وظائف جديدة، مما سيؤدي حتماً إلى تعزيز الإقتصاد.
على الجانب الآخر، وصف ترامب تغير المناخ بأنه “خدعة”، منتقداً مصادر الطاقة المتجددة مثل الرياح والطاقة الشمسية، ومركزاً على أهمية الحفاظ على الوظائف في قطاع النفط والغاز.
أظهر النقاش حول تغير المناخ تبايناً واضحاً بين رؤى هاريس حول الإستدامة والإبتكار، ورؤية ترامب التي تقلل من أهمية معالجة تغير المناخ، فبينما قدمت هاريس تطلعاتها حول تحول الطاقة النظيفة كفرصة إقتصادية وأخلاقية، ركز ترامب على تبنى النهج التقليدي المحافظ في معالجة القضايا البيئية، وعلى الفوائد الإقتصادية للحفاظ على الوظائف في قطاع النفط والغاز.
العِرق والسياسة: خلافات حول التاريخ والإنقسامات
في النقاش حول العِرق، تم تذكير ترامب بتصريحاته المثيرة للجدل حول قضايا عرقية، بما في ذلك تعليقاته السابقة عن باراك أوباما وحادثة سنترال بارك، ورد ترامب بتقليل أهمية هذه التصريحات، مؤكداً أن العِرق ليس قضية أساسية في حملته.
هاريس من جهتها انتقدت خطاب ترامب المثير للإنقسام، مؤكدة أهمية الوحدة والفرص المتساوية لجميع الأمريكيين، وقدمت هاريس نفسها كمدافعة عن العدالة الإجتماعية والإنصاف، مشيرة إلى تباين موقفها مع سياسات ترامب.
وباعتقادنا لقد أبرز هذا الجزء من المناظرة التوترات العرقية المستمرة في السياسة الأمريكية، بينما سعت هاريس إلى تسليط الضوء على التزامها بالعدالة الإجتماعية، قلل ترامب من أهمية قضايا العرق، مما يعكس الانقسام حول السياسة العرقية في الولايات المتحدة، والنقاش الدائر حول المدى المنظور لإستمرار سيطرة العنصر الأبيض على مقاليد ودفة الأمور فيها.
خلاصة المناظرة: انتصار نسبي لهاريس؟
تباينت الآراء حول من كان الفائز في المناظرة، لكن هناك توافق نسبي على أن أداء هاريس كان قوياً ومقنعاً الى حد ما، إذ يسود اعتقاداً واسعاً ان هاريس استطاعت أن تقدم مواقفها السياسية بوضوح وهدوء وثقة، في حين بدا ترامب أكثر دفاعية، مع تزايد غضبه وانفعاليته في بعض الأحيان، وذهب ترامب إلى حد اتهام مذيعَي شبكة “إيه بي سي” التلفزيونية اللذين أدارا الحوار بالتحيز ضده. وقد أظهرت بعض الاستطلاعات انخفاضاً طفيفاً في فرص ترامب بعد المناظرة، في حين تحسنت فرص هاريس بشكل قليل، مما قد يشير إلى تأثير المناظرة على الناخبين المترددين وغير المتأكدين.
بناء على ما سبق، أكدت هذه المناظرة التباين الكبير في الرؤى والنهج بين هاريس وترامب، في حين ركزت هاريس على الوحدة والعدالة الإجتماعية، استمر ترامب في الترويج لسياسات “أمريكا أولاً”، التي تركز على القوة الإقتصادية والأمنية. وظهر لافتاً ان هذه المناظرة عكست بشكل واضح حالة الانقسام السياسي العميق في الولايات المتحدة، حيث يقدم كل مرشح رؤية متعارضة، متضاربة، ومختلفة تماماً لمستقبل الولايات المتحدة، مما يؤكد إستمرار الاستقطاب الحاد في الداخل الأمريكي.