الدول المطبعة وطوفان الأقصى

الدول المطبعة وطوفان الأقصى

شهدنا في الأوانة الأخيرة تحولات واضحة في مواقف دول مطبعة مثل مصر وتركيا والإمارات العربية المتحدة إذ أعلنت الأولى انضمامها إلى دعوى جنوب أفريقيا لمقاضة كيان الإحتلال الإسرائيلي أمام محكمة العدل الدولية، فيما أعلنت الثانية قطع العلاقات التجارية الإقتصادية معه فضلاً عن إرتفاع حدة الخطاب السياسي تجاهه، فيما تقدمت الثالثة بطلب لقبول العضوية شبه الكاملة لدولة فلسطين في الجمعية العامة للأمم المتحدة حيث حظي هذا الطلب بموافقة 143 دولة عضو في الامم المتحدة، فما أسباب هذه التحولات؟
أول الأسباب يكمن في الصمود الأسطوري للمقاومة الفلسطينية في قطاع غزة بالرغم من الحرب العدوانية الطاحنة، حرب الإبادة المستمرة منذ ما يقارب الـ 8 أشهر، حيث تتزايد عمليات المقاومة في القطاع ملحقة خسائر كبيرة في القوات المتوغلة فيه، فضلاً عن الاخفاقات الكبرى في تحقيق أهداف الحرب التي اعلنها رئيس حكومة الإحتلال الإسرائيلي بنيامين نتنياهو والتي تتمثل بالقضاء على حركة حماس وفصائل المقاومة، تصفية قيادات المقاومة الفلسطينية، إستعادة الاسرى الإسرائيليين، وتهجير الفلسطينيين وإعادة إحتلال القطاع وفرض واقع سياسي وعسكري وديمغرافي جديد في غزة، هذه الأهداف التي تبدو مستحيلة التحقق على الرغم من الدعم الأميركي الأطلسي المنقطع النظير، ويبدو واضحا ًوجلياً من خلال عمل مجموعات المقاومة والكمائن التي يقع فيها جنود الإحتلال الإسرائيلي ان المقاومة لا زالت صاحبة الكلمة العليا في الميدان، وان بنيتها التحتية قوية ومتماسكة وتعمل بكفاءة عالية، اذ تكفي الإشارة إلى الصواريخ التي عادت لتدك مستوطنات غلاف غزة وعسقلان، ويظهر ان المقاومة لديها الإمكانيات اللازمة لقتال العدو الإسرائيلي أشهر إضافية أخرى بالتوازي مع تطوير عملها الذي يؤكد إستحالة بقاء اياً من قوات الإحتلال الإسرائيلي في غزة بعد أي إتفاق محتمل لوقف أطلاق النار.
ثاني الأسباب يظهر في التطور النوعي للمقاومة في لبنان الذي يظهر في المشاهد الواضحة التي تبث مباشرة للصواريخ والمسيرات على أنواعها ومنها الانقضاضية التي تذهب بأريحية لإصابة أهدافها النوعية المختارة والمنتقاة بعناية وبراعة كبيرتين، وبعض هذا الأهداف غير مرئي ومشاهد حتى بالمناظير الحديثة من على الحدود اللبنانية مع فلسطين المحتلة، والتي تبعد عدة كيلو مترات عنها ما يؤشر إلى امكانيات الاستطلاع والرصد النوعية، والمعلومات الحية عن تحركات وتموضعات جنود الإحتلال الإسرائيلي في شمال فلسطين، فضلا عن استهداف البنية التحتية التجسسية وأجهزة المراقبة والرصد التي تغطي لبنان وسوريا وجزء من العراق ومصر، وبالرغم من المعلومات اللحظية التي تقدمها الاقمار الصناعية الأميركية والأطلسية والتي تمتلك امكانيات المسح الدقيق والشامل والتفصيلي لكامل المنطقة العربية والتحركات الجارية فيه باجزاء من الثانية، تؤكد المقاومة ان قدراتها وتحركاتها الميدانية على درجة عالية وكبيرة من الحرفية العسكرية والبراعة في تضليل العدو الذي يعترف قادته باستعصاء احتواء الجبهة الشمالية والتخفيف من وطأتها وتداعياتها الإستراتيجية، حيث الاقرار ان الخطر الوجودي الذي يؤرق مضاجعه، ويؤكد ان كل حروب الكيان منذ بدايته ستكون نزهة أمام ما ينتظره عند اندلاع الحرب الكبرى المنتظرة الواقعة حتماً.
ثالث الأسباب وتتمظهر في الرد الإيراني على الاستهداف العدواني الإسرائيلي لقنصليتها في دمشق، وتداعياته ليس فقط على كيان الإحتلال اإسرائيلي بل على كامل دول المنطقة، وتحديداً الدول المطبعة والحليفة للولايات المتحدة، والتي قرأت ان القدرات الإيرانية تجاوزت حق الرد في الزمان والمكان الى أبعد من أفق المنطقة ودولها وقدراتها، فكيان الإحتلال الإسرائيلي الذي تجندت لحمايته المنظومات الأميركية والأوروبية والأطلسية ومعها دول عربية سائرة في ركب هذه المنظومات لم تستطع تجنيبه الكأس الإيرانية المرة التي تجرعها عقب الهجوم الإيراني الذي أرسى قواعد اشتباك وخطوط صراع جديدة على مستوى المنطقة لا مكان فيه الا للاعبين الكبار الذين لا يتجاوزون عدد اصابع اليد الواحدة، اذ بات من العصي تجاوز الدور الإيراني الذي يبدو أنه بات راسخاً على مستوى المنطقة بشكل لا يمكن تجاوزه، اذ بات من الواضح ان كيان الإحتلال الإسرائيلي ودوره الذي كان ضارباً على مستوى المنطقة بات اليوم على المحك بعد الاخفاقات الكبرى التي اصابته في صميم وجوده ودوره ووظيفته التي كان الاعتقاد السائد انه لا يهتز ويتزعزع.
رابع الأسباب فيمني بامتياز، فصنعاء باتت رقماً صعباً في المنطقة، وشريكاً كاملاً في رسم آفاق المواجهة مع الكيان الصهيوني وقبله الولايات المتحدة الأميركية ومعها دول الأطلسي التي باتت في حالة عجز كامل أمام المارد اليمني الذي تجاوز الجغرافيا واختزلها، وبات جزء لا يتجزأ من دول الطوق التي لا زالت في حالة حرب ومواجهة مع كيان الإحتلال الإسرائيلي، فسقف التحدي اليمني للأخير يعتبر في علم الإستراتيجيا طوفاناً لا يقل أهمية عن طوفان السابع من تشرين الأول/أكتوبر، ما يعني عملياً صعوبة الإحتواء والتصدي للبسالة اليمنية المتصاعدة التي افسدت على دول الممر الهندي مشروع تعويم كيان الإحتلال الإسرائيلي باعتباره درة التاج في المنطقة التي طالما كانت وستبقى مقبرة الإمبراطوريات الكبرى، فضلاً عن حالة الردع التي فرضتها صنعاء بمواجهة الدول التي ساهمت بالحرب عليها على مدار سنوات العدوان، والتي يعمل على ان تكون جزء من تحالف تنضوي فيه مع كيان الإحتلال الإسرائيلي في سياق الترتيبات الجديدة التي تعمل عليها الولايات المتحدة في المنطقة.
خامس الأسباب فعراقي خالص، حيث تؤكد الوقائع العراقية الداخلية ان نصرة فلسطين وغزة مسألة وجودية ترتبط بصميم دورة الحياة العراقية، فبغداد عادت لتتصدر مكانها الطبيعي في نصرة القضايا العربية العادلة، وعادت معها الحيوية العراقية التي تجسدها اليوم المقاومة العراقية التي تستهدف العمق الإسرائيلي، فعلى الرغم من الرهانات القريبة والبعيدة ان العراق سيبقى بمنأى عن الانخراط الفعال في التصدي لحرب الإبادة الإسرائيلية بحق غزة وأهلها بفعل ثقل الملفات الداخلية العراقية وتعقيدات المشهد الداخلي، والتدخلات الخارجية ومشاريع التقسيم التي تعمل على قسمة العراقيين والجغرافيا العراقية، أبت بغداد الا ان تكون في طليعة المؤكدين بالقول والفعل على ان لفلسطين في وجدان العراقيين والعراق منزلة لا يضاهيها أحد، فضلاً عن التحدي المشرف الذي أظهرته المقاومة العراقية حيال النفوذ الأميركي وفشل محاولات واشنطن تطويع العراق ومقاومته ومنعه من الانخراط الجاد وتحييده، بل والسعي لادماجه في مشاريع التطبيع بعناوين مختلفة ومسميات متعددة.
ثمة تحولات واضحة في مواقف واتجاهات الدول المطبعة فرضتها الوقائع التي تجري على مستوى المنطقة وفي طليعتها الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة التي تدور رحاها الطاحنة منذ ما يقارب الثمانية أشهر، فأوراق هذه الدول باتت محدودة، فواشنطن لا ترى سوى الكيان الإسرائيلي في المنطقة، التي تشهد تراجعاً واضحا في نفوذ وسطوة الولايات المتحدة الأميركية، وصحيح ان مواقف هذه الدول لا ترقى إلى المستوى المأمول والنوعي، الا انها تؤشر إلى ايقاع جديد على مستوى الإقليم فرضه الصمود الاسطوري للمقاومة الفلسطينية ومعها قوى المقاومة في المنطقة، التي يظهر انها استعدت لمعركة استنزاف طويلة تختلف عن سابقاتها التي جرت وقائعها في منطقتنا منذ نشأة الكيان الإسرائيلي عام 1948.