تأثير مناورات الهندوباسيفيك على نماذج الردع الروسي والصيني تجاه واشنطن د. محمد حسن سعد

تأثير مناورات الهندوباسيفيك على نماذج الردع الروسي والصيني تجاه واشنطن
د. محمد حسن سعد
تعتبر مناورات “Ocean-2024″، التي تُجريها روسيا بالتعاون مع الصين في بحر اليابان وبحر أوخوتسك، حدثاً استراتيجياً بارزاً في سياق العلاقات الدولية، خاصة في إطار الردع الإستراتيجي ضد الولايات المتحدة، إذ تأتي هذه المناورات في وقت حساس حيث تتزايد التوترات الجيوسياسية، مما يسلط الضوء على القوة العسكرية لكلا البلدين ورغبتهما في إعادة صياغة توازن القوى في منطقة الهندوباسيفيك.
1. دلالات عسكرية وجيوستراتيجية
تُعتبر مناورات “Ocean-2024” الأكبر منذ انهيار الاتحاد السوفيتي، حيث شارك فيها أكثر من 400 سفينة حربية و120 طائرة، بالإضافة إلى 90 ألف فرد من القوات. يعكس هذا الحجم قدرة موسكو على استعراض قوتها العسكرية وإرسال رسالة قوية إلى واشنطن وحلفائها بأن روسيا لا تزال قوة بحرية مؤثرة وفاعلة. كما تضمنت المناورات عمليات معقدة تشمل تنفيذ هجمات مشتركة، ومناورات تكتيكية متقدمة، وتدريبات على الحرب السيبرانية، مما يُظهر تنسيقاً عالي المستوى بين القوات البحرية والجوية للبلدين. ومن الجوانب المهمة في هذه المناورات هو التنسيق بين الجيشين الروسي والصيني، والذي يتجاوز مجرد التعاون الثنائي إلى تبادل الخبرات والتكتيكات العسكرية، مما يعكس تصميم البلدين على مواجهة التهديدات المشتركة. وتعزز هذه المناورات أيضاً من قدرة البلدين على العمل معاً في أوقات الأزمات، مما يجعلها خطوة إستراتيجية في تعزيز الشراكة العسكرية بينهما.
2. رمزية التسمية
أ. الحنين السوفياتي: استخدمت روسيا مصطلح أوشن “Ocean” كرمز لعهدها السوفياتي ومناوراته البحرية في السبعينات والثمانينيات من القرن المنصرم التي كانت تحمل ذات المصطلح، مما يعكس رغبتها في إعادة إحياء نفوذها العسكري البحري. وتحمل المناورات أيضاً دلالات تتعلق بالقدرات النووية الروسية، حيث أكدت موسكو أنها ستعزز من قدراتها البحرية النووية كجزء من هذا العرض. وقد اعتبر الرئيس فلاديمير بوتين في كلمته الافتتاحية أن هذه المناورات هي تجسيد لرغبة روسيا في استعادة مكانتها كقوة عظمى، محذراً من أن أي تهديد لروسيا سيواجه برد قوي.
ب. المركزية الصينية: أطلقت الصين على مناوراتها المشتركة مع روسيا اسم “شمال متحد 2024″، مما يُبرز رؤيتها لجعل بكين مركزاً عالمياً. هذا الاسم يُعبر عن وحدة الأهداف بين موسكو وبكين، في مواجهة الهيمنة الغربية وتحديداً الأميركية، فالصين تسعى من خلال هذه المناورات إلى تأكيد سيطرتها على المنطقة وطرح نموذج جديد للقوى العظمى، وبعيداً عن الهيمنة الأميركية التقليدية، يبدو ان هذه الخطوة تعتبر تعبيراً واضحاً عن السياسة الخارجية الصينية التي تهدف إلى إعادة تشكيل النظام الدولي ليكون متعدد الأقطاب، حيث تلعب الصين وروسيا دوراً محورياً في هذا النظام.
3. نماذج الردع الإستراتيجي
أ. الردع الروسي الهجومي: أشارت المناورات إلى تحول في إستراتيجية الردع الروسية نحو البعد الهجومي، فروسيا حددت سياستها العسكرية الجديدة منذ عام 2015، والتي تركز على مزيج من التهديد والإكراه لتعزيز قدراتها الردعية. وبدا جلياً من هذه المناورات أن روسيا ليست فقط مستعدة للدفاع، بل قد تتجه نحو الهجوم إذا اعتبرت أن مصالحها تتعرض للتهديد. تُعتبر هذه الخطوة جزءاً من التحول الذي شهدته العقيدة العسكرية الروسية، حيث تم التركيز على مفهوم “الردع النشط” الذي يتيح لروسيا استباق التهديدات المحتملة.
ب. الردع الصيني الدفاعي: بالرغم من أن نموذج الردع الصيني يعتمد على إستراتيجية الضربة الانتقامية، فإن مشاركة بكين في مناورات “Ocean-2024” تُظهر استعدادها لأخذ زمام المبادرة الهجومية إذا ما تعرضت لمخاطر وجودية، فهذه الاستعدادات تأتي في ظل تهديدات مستمرة من الولايات المتحدة، مما يعزز من أهمية هذا التعاون العسكري. وتعكس المشاركة الصينية في المناورات رغبة بكين في تعزيز قدراتها العسكرية في مواجهة الضغوط الأميركية المتزايدة في المنطقة وإضعاف محاولات تطويقها.
4. تعزيز التحالفات
تُظهر مناورات “Ocean-2024” تطور التحالف بين روسيا والصين من تحالف “الضرورة” إلى تحالف “الشراكة الإستراتيجة”، الذي يسعى إلى تجاوز أي خلافات تاريخية لبناء ردع مشترك ضد السياسات الأميركية، فهذا التعاون يعتبر نموذجاً للتوازن الإستراتيجي في وجه التحديات الغربية، حيث يتجه البلدان نحو تعزيز شراكتهما في مجالات متعددة، منها الإقتصاد والتكنولوجيا، بالإضافة إلى المجال العسكري. وبات من شبه المؤكد إلى أن هذا التحالف لن يقتصر فقط على الجوانب العسكرية، بل سيشمل أيضاً التعاون في مجالات الفضاء والطاقة، مما يعكس رغبة البلدين في بناء شراكة إستراتيجية شاملة.
5. تأثير المناورات على الجبهة الأوكرانية
تُعتبر هذه المناورات وسيلة لتعزيز الضغط على الولايات المتحدة وحلفائها الأوروبيين فيما يتعلق بالأزمة الأوكرانية، حملت هذه المناورات رسالة مفادها أن أي زيادة في الدعم الغربي لأوكرانيا ستُقابل بمزيد من التدخل الروسي في منطقة الهندوباسيفيك، مما يُعزز من النفوذ الصيني أيضاً. وتُشير هذه الديناميكيات إلى تحول في إستراتيجيات الحرب الباردة الجديدة، حيث تتجه الدول الكبرى نحو إنشاء تحالفات جديدة للتصدي للتهديدات المحتملة. هذا التفاعل بين الأزمتين، الأوكرانية والهندوباسيفيكية، يُعزز من العلاقات بين موسكو وبكين ويزيد من تعقيد المشهد الجيوسياسي العالمي.
6. موازنة تحالفات واشنطن
تواجه الصين تحديات متزايدة من التحالفات الأميركية مثل كواد “Quad” وأكوس”AUKUS” ، لذا تعزز هذه المناورات العلاقات مع روسيا كونها خطوة إستراتيجية لبكين لبناء شبكة من التحالفات المُعززة التي تُوازن القوى في منطقة الهندوباسيفيك، وتعمل بكين على تعزيز قدراتها الدفاعية والتعاون مع موسكو، مما يُشكل تحدياً كبيراً للسياسات الأميركية في المنطقة. في ظل التحولات الحالية، وعليه يُتوقع أن تتجه واشنطن نحو تعزيز وجودها العسكري في الهندوباسيفيك، مما قد يزيد من التوترات بين الأطراف المختلفة.
7. تداعيات على الأمن الإقليمي
تمثل مناورات “Ocean-2024” نقطة إنطلاق نحو إعادة تشكيل الأمن الإقليمي، إذ من المحتمل أن تتسبب هذه المناورات في تصعيد التوترات مع الدول المجاورة، مثل اليابان وكوريا الجنوبية، اللتان تشعران بالقلق من التوسع العسكري الروسي والصيني. ويُظهر هذا السياق أن التحالفات القديمة قد تتعرض للاختبار، حيث ستسعى الدول الإقليمية لتعزيز قدراتها العسكرية والتعاون مع الحلفاء التقليديين لمواجهة التحديات الجديدة، ومن المتوقع أن تتجه هذه الدول نحو تعزيز وجودها العسكري، مما يزيد من إحتمالية حدوث نزاعات جديدة في المنطقة.
8. التحولات الإقتصادية والتجارية
تتجاوز تداعيات مناورات “Ocean-2024” المجال العسكري لتشمل الجوانب الإقتصادية والتجارية، فمن المؤكد أن هذه المناورات ستؤدي إلى تعزيز التعاون الإقتصادي بين روسيا والصين، حيث يسعى كلا البلدين لتوسيع علاقاتهما التجارية والإستثمارية في مواجهة العقوبات الغربية. وتعتبر المناورات أيضاً فرصة لتوسيع نطاق التعاون في مجالات الطاقة والتكنولوجيا، حيث يمكن للبلدين الإستفادة من تجاربهما في تطوير مشاريع مشتركة، مثل خطوط الأنابيب والطاقة المتجددة، كون هذا التعاون الإقتصادي يُعتبر جزءًا من إستراتيجية أوسع تهدف إلى تقليل الإعتماد على الغرب وزيادة المرونة الإقتصادية.
9. الأبعاد السيبرانية للحرب
في العصر الحديث، تلعب القدرات السيبرانية دوراً متزايد الأهمية في النزاعات الدولية، إذ كان لافتاً شمول مناورات “Ocean-2024” عناصر من الحرب السيبرانية، مما يعكس قدرة كل من روسيا والصين على تنفيذ هجمات سيبرانية معقدة تتزامن مع التحركات العسكرية التقليدية. يُظهر هذا التكامل بين الأنظمة العسكرية والتكنولوجية الحديثة أن المستقبل سيكون أكثر تعقيداً، حيث ستتداخل الأساليب التقليدية وغير التقليدية في الصراعات القادمة، بالتالي فإن الاستعدادات السيبرانية تعتبر جزءاً لا يتجزأ من إستراتيجية الردع لكلا البلدين.
في ضوء التطورات الأخيرة، تعكس مناورات “Ocean-2024” تحولاً إستراتيجياً في نماذج الردع لكل من روسيا والصين، فالتعاون العسكري ليس فقط تجسيداً لقوة التحالف بينهما، بل هو أيضاً تعبير عن إستراتيجياتهما المشتركة لمواجهة الهيمنة الأميركية. من المتوقع أن تؤثر هذه الديناميكيات على التوازن الجيوسياسي في المنطقة، مما يستدعي إعادة تقييم من قبل الولايات المتحدة وحلفائها، فمن الواضح إن الأبعاد الجديدة لهذه المناورات تشير إلى أن العالم يشهد حقبة جديدة من المنافسة الجيوسياسية، بالتوزاي مع استمرار السعي لتغيير النظام الدولي “القائم على القواعد” والذي تتمسك به الولايات المتحدة الأميركية ومعها حلفائها من قبل روسيا والصين وقوى أخرى حول العالم.