التحولات الإيرانية في ضوء عودة دونالد ترامب للرئاسة د. محمد سعد

التحولات الإيرانية في ضوء عودة دونالد ترامب للرئاسة
د. محمد سعد
مع اقتراب عودة دونالد ترامب إلى البيت الأبيض في 20 كانون الثاني/يناير عام 2025، تصاعدت الدعوات داخل إيران لإعادة النظر في سياساتها الخارجية، بما في ذلك إمكانية التفاوض مع الولايات المتحدة الأمريكية. وقد صرَّح علي عبد العلي زاده، المستشار الخاص للرئيس الإيراني، في 31 كانون الأول/ديسمبر عام 2024، بأن القيادة الإيرانية توصلت إلى قناعة بضرورة إجراء مفاوضات مباشرة مع واشنطن، مشيراً إلى الحاجة الماسة لسياسة خارجية جديدة تتسم بالمرونة للدفاع عن المصالح الوطنية الإيرانية. في الوقت ذاته، أعلنت وزارة الخارجية الإيرانية على لسان كاظم غريب آبادي نائب وزير الخارجية عن محادثات جديدة مع الدول الأوروبية حول البرنامج النووي، والتي ستُعقد في جنيف في 13 كانون الثاني/يناير 2025.
دوافع إيران نحو التفاوض
يمكن تفسير هذا التحول في الموقف الإيراني في ضوء عدد من العوامل الأساسية التي تدفع القيادة الإيرانية إلى التفكير في التفاوض مع إدارة ترامب، على الرغم من العداء المتبادل والتجارب السابق.، هذه العوامل نوجزها بما يلي:
1 ـــ الخشية من عودة سياسة “الضغوط القصوى”
تُدرك إيران أن عودة ترامب إلى البيت الأبيض تعني إعادة إحياء سياسة “الضغوط القصوى” التي أثرت بشدة على الإقتصاد الإيراني خلال ولايته الأولى، ففرض ترامب عقوبات مشددة على طهران بعد انسحابه من الاتفاق النووي في عام 2018 أدى إلى تدهور العملة الإيرانية وتراجع الاحتياطيات النقدية، وتفاقمت الأوضاع الإقتصادية أكثر مع الانقطاعات المتكررة للتيار الكهربائي، في مؤشر على تدهور البنية التحتية التي عجزت الشركات الإيرانية عن تطويرها بعد انسحاب الاستثمارات الأجنبية. كما تعلم القيادة الإيرانية أن استمرار هذه السياسة سيؤدي إلى انهيارات أعمق في إقتصادها، مما يجعل البحث عن تخفيف العقوبات عبر التفاوض خياراً أكثر واقعية، وقد يكون الهدف الأساسي من هذه الخطوة هو الحد من تأثير العقوبات الجديدة المتوقعة في ظل إدارة ترامب.
2 ـــ تراجع الدعم الدولي من الحلفاء التقليديين
تعاني إيران من تضاؤل الدعم الدولي من قِبَل القوى الكبرى مثل روسيا والصين، فموسكو التي تنخرط بشكل مكثف في الحرب الأوكرانية، ليست في موقع يسمح لها بتقديم دعم حاسم لإيران، وفي الوقت ذاته يبدو أن بكين ترسل إشارات إلى إيران بضرورة التوصل إلى تسوية مع واشنطن، خاصة في ظل حاجة الصين إلى إستقرار الأسواق النفطية وضمان إستمرارية إمداداتها من الطاقة، وعدم تعرضها لخضات وأزمات في هذا القطاع الحيوي الذي تحتاجه لاستمرار وديمومة وإستقرار دورة انتاجها المتنوعة.
أضف إلى ذلك أن الصين وروسيا تبنَّتا مواقف في بعض الملفات الإقليمية تُظهر عدم توافق كامل مع السياسات الإيرانية، مثل دعمهما للمطالب الإماراتية بشأن الجزر الثلاث المتنازع عليها. هذه المواقف تُبرز محدودية الاعتماد على الحلفاء التقليديين.
3 ـــ مخاطر ومخاوف تفعيل “آلية الزناد”
تواجه إيران احتمال قيام الدول الأوروبية بتفعيل “آلية الزناد” (هذه الآلية هي من البنود الأساسية في الاتفاق النووي وتتيح للأطراف التخلي عن محتوى الاتفاق وإنهاءه)، مما قد يؤدي إلى إعادة فرض عقوبات دولية عليها من خلال مجلس الأمن الدولي. هذا السيناريو يُمثل كارثة محتملة لإيران، التي تعتمد بشكل كبير على صادراتها النفطية رغم العقوبات الأمريكية، وبالتالي فأن أي تصعيد جديد قد يُعقِّد قدرة إيران على الالتفاف على العقوبات وتصدير النفط، خصوصاً إذا ضغطت واشنطن على الصين لوقف استيراد النفط الإيراني.
4 ـــ مخاطر الخيار العسكري
تُدرك القيادة الإيرانية أن احتمالية التعرض لضربة عسكرية واسعة النطاق أصبحت أكثر واقعية، خاصة في ظل تزايد التقارير عن تقدم البرنامج النووي الإيراني، فبحسب الوكالة الدولية للطاقة الذرية، فإن إيران تمتلك الآن كمية من اليورانيوم المخصب تكفي لإنتاج أربع قنابل نووية إذا اتُّخذ قرار سياسي بذلك.
كما أن انهيار النفوذ الإقليمي الإيراني في سوريا بعد سقوط نظام بشار الاسد، وتراجعه في لبنان بعد الضربات القاسية التي تعرضت لها القدرات العسكرية لحزب الله، وتدمير غزة وفقدان حركة حماس للكثير قدراتها وامكانياتها يزيد من هشاشة الموقف الإيراني، مما يجعلها أكثر عرضة للضربات العسكرية.
الخيارات الإيرانية: بين التصعيد والتهدئة
رغم تزايد الدوافع للتفاوض لا يبدو أن إيران مستعدة لتقديم تنازلات كبيرة دون تحقيق مكاسب واضحة، ويمكن تلخيص الإستراتيجية الإيرانية الحالية في النقاط التالية:
إرسال رسائل متضاربة: تعمل إيران على تصدير رسائل مزدوجة تُظهر انفتاحها على التفاوض مع الولايات المتحدة، لكنها في الوقت ذاته تؤكد عدم التخلي عن برنامجها النووي، هذا التكتيك يمنح إيران مساحة للمناورة ويُبقي خياراتها مفتوحة.
1 ـــ توسيع العلاقات مع القوى الدولية: تحاول إيران تعزيز علاقاتها مع دول أخرى مثل الاتحاد الأوروبي والهند، بهدف تقليل الاعتماد على الصين وروسيا، هذه السياسة قد تُسهم في خلق توازن جديد في علاقاتها الخارجية.
2 ـــ تعزيز الدفاعات الداخلية: تُركز إيران على تطوير قدراتها العسكرية والدفاعية لتحسين موقفها التفاوضي في مواجهة أي تهديدات عسكرية.
التحديات المستقبلية
رغم التحركات الإيرانية، لا تزال هناك العديد من العقبات التي تُعقِّد مسار التفاوض مع إدارة ترامب، وابرز هذه العقبات هي:
1 ـــ تصلُّب موقف إدارة ترامب: تُظهر التجربة السابقة أن ترامب لن يقبل بتقديم تنازلات كبيرة لإيران دون تحقيق مكاسب واضحة.
2 ـــ الضغوط الداخلية في إيران: تواجه القيادة الإيرانية انتقادات واسعة من النخب السياسية والرأي العام، مما يجعل تقديم تنازلات في المفاوضات أمراً صعباً.
3 ـــ انعدام الثقة المتبادل: العلاقات بين إيران والولايات المتحدة محكومة بعدم الثقة، مما يجعل الوصول إلى تفاهمات دائمة أمراً بالغ التعقيد.
ختاماً، في ظل التحديات الداخلية والخارجية التي تواجهها إيران، يبدو أن خيار التفاوض مع إدارة ترامب يفرض نفسه كضرورة استراتيجية لتجنب الأسوأ. ومع ذلك، فإن نجاح هذا الخيار يعتمد على قدرة القيادة الإيرانية على تقديم تنازلات مدروسة دون أن تُضعِف موقفها الداخلي، وفي الوقت ذاته تحقيق تفاهمات مع إدارة تُعرف بنهجها الحازم وغير التقليدي، ويبقى المستقبل مفتوحاً على جميع الاحتمالات، لكن المؤكد هو أن المرحلة القادمة ستكون حاسمة في تحديد مصير إيران على الصعيدين الداخلي والخارجي.