مقالات

مخيم البداوي… حين تُغلق الطرق وتُفتح الأسئلة وفاء بهاني

ما بين قرار وتنفيذ، يعيش مخيم البداوي شمالي لبنان فصلاً جديداً من فصول الضغط غير المعلن على اللاجئين الفلسطينيين، حيث واصل الجيش اللبناني إغلاق المداخل الفرعية المؤدية إلى المخيم، في خطوة أثارت موجة من التساؤلات والقلق، ليس فقط داخل المخيم، بل لدى كل من يتابع القضية الفلسطينية من زاوية اللجوء والمخيمات.

إغلاق عدد من المداخل الفرعية المؤدية إلى المخيم لم يأتِ منفصلاً عن سياق أوسع، بل يبدو حلقة ضمن خطة متدرجة تُنفذ تحت عنوان “تنظيم الوضع الأمني”، لكنها عملياً تُعمّق العزلة، وتزيد من تقييد حركة الناس، وتغلق أمامهم ما تبقى من نوافذ على حياة طبيعية نسبياً.

المفارقة أن هذه الإجراءات طالت منطقة تضم مدارس وروضات ومساجد تشكّل نقاط التقاء يومية بين الفلسطينيين واللبنانيين في الجوار، ما يعني أن ما يُغلق هنا ليس مجرد معابر فرعية، بل شبكة تواصل إنساني واجتماعي، طالما قاومت الانقسام والتهميش.

لكن الأكثر إثارة للتساؤل هو الموقف الفلسطيني، أو بالأحرى غيابه. فباستثناء بيان خجول أشار إلى “التنسيق” مع الجيش اللبناني و”تفهم الإجراءات”، لم يصدر عن الفصائل أي موقف يعكس قلق الناس، أو يتبنى روايتهم، أو حتى يفتح حواراً شفافاً معهم حول ما يجري. ويُقال إن هذه الإجراءات جاءت تنفيذاً لاتفاق قديم أُبرم بين الجيش وسفارة السلطة الفلسطينية في بيروت، وتم تجميده سابقاً ثم أُعيد تفعيله، لكن أحداً لم يُشرح لماذا الآن؟ ولماذا بهذه الطريقة؟

ولعلّ ما يضاعف حجم القلق هو أن الجهة الفلسطينية المعنية رسميًا أمام الدولة اللبنانية، أي السلطة الفلسطينية في رام الله ممثَّلة بسفارتها في بيروت، هي التي يُقال إنها كانت شريكاً في الاتفاق الأصلي مع الجيش، ما يجعلها الطرف الذي ينبغي مساءلته سياسياً وشعبياً عن هذا المسار وتوقيته. فالمخيمات ليست مجرد تجمعات سكانية، بل قضية سياسية وإنسانية، وقرار خنقها ليس إدارياً بحتاً، بل يحمل دلالات وطنية تستوجب وقفة مسؤولة.

أما الفصائل الفلسطينية، وإن لم تكن صاحبة القرار الرسمي، فهي مطالَبة بلعب دور الضاغط الشعبي، والمدافع عن أهالي المخيم، والمدافع عن المخيم كرمز للهوية الوطنية وحق العودة. فالصمت أو الاكتفاء ببيانات باهتة لا يعفيها من المسؤولية أمام مجتمعها، ولا من واجب التصدي لأية خطوات تمس كرامة اللاجئين أو تنال من رمزية وجودهم.

في المحصلة، يعيش اللاجئ الفلسطيني في لبنان – وتحديداً في مخيمات الشمال – وسط أزمة مزدوجة: تضييق ميداني على الأرض، وغياب رؤية سياسية تحمي حقوقه وتُبقي على المخيم كعنوان سياسي لحق العودة، لا مجرد عبء أمني يجب إدارته أو احتواؤه.

ومع تصاعد الأزمات في غزة، واستمرار الانقسام الفلسطيني، والانشغال العربي والدولي عن جوهر القضية، تتحوّل هذه الإجراءات المحلية – التي قد تبدو بسيطة في ظاهرها – إلى مؤشرات خطيرة على مآلات أعمق. فالتضييق على المخيمات ليس مجرد قرار أمني، بل هو انعكاس لانحسار الاهتمام السياسي بالقضية الفلسطينية في بُعدها اللاجئ، وتخلٍ تدريجي عن معركة الدفاع عن الحق في العودة.

ما يجري في البداوي ليس استثناءً، بل نموذجاً لتعامل جديد مع المخيمات، قد نراه يتكرر في أماكن أخرى، إذا لم يواجه بموقف فلسطيني جامع، ووعي شعبي يربط بين تفاصيل اليوم ومصير الغد.

في النهاية، لا يمكن قراءة الجدران الإسمنتية التي تُغلق بها المداخل إلا كرمز لجدران أكبر تُبنى في العقول والسياسات، تُبعد الفلسطيني عن وطنه، وتُقصيه عن قضيته، وتُحوّله من صاحب حق إلى مجرد رقم في سجلات النزوح الطويلة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى