بأقلامهم

أَحمد الشُّقيري… رجُلٌ صَنَعَ الثَّورة فخذلتهُ!

محمود كلم 
كاتب فلسطيني

كان أحمد الشقيري رجلاً عاش حياتهُ كلَّها من أجلِ فلسطين، لكنه رحلَ غريباً، منكسرَ القلبِ، بعدما خانهُ الجميعُ، حتى أولئك الذين ساندَهُم ورفعَ لواءَهُم يوماً. لم يكن مجرَّدَ سياسيٍّ عابرٍ في التاريخ الفلسطيني، بل كان أول من حاول وضع القضيَّة الفلسطينيَّة في إطارٍ مُؤَسَّسيٍّ، ليجعلها قضيَّة شعبٍ لهُ قيادةٌ تُمثِّلُهُ، لا مجرَّد أزمةٍ يُديرُها العرب وفق مصالحهم وأهوائهم، لكنَّهُ كما هو حالُ كثيرٍ من القادةِ الذين تقدَّموا الصفوف دفاعاً عن قضاياهم، وجدَ نفسهُ في نهايةِ المطافِ وحيداً، يُنبَذُ كما يُنبَذُ الغريبُ في بلادهِ.

عاش الشقيري رحلةً نضاليَّةً طويلةً، بدأَها من شوارع القدس، مروراً بسجون الانتداب البريطاني، ثمَّ في ميادين الدبلوماسيَّة والسياسة. لم يكن مجرَّد سياسيٍّ يُجيدُ الخطابة، بل كان محامياً في المحاكم، ومناضلاً في الميدان، وصوتاً قويّاً لفلسطين في الأمم المتَّحدة. وعندما كلَّفهُ مؤتمرُ القمَّة العربيُّ عام 1964 بإنشاءِ كيانٍ فلسطينيٍّ مستقلٍّ، حملَ المسؤوليَّة بكلِّ صدقٍ، وأسسَ منظَّمة التحرير الفلسطينيَّة، واضعاً أُسُسَها بنفسهِ، وصاغَ الميثاقَ القوميَّ الفلسطينيَّ الذي ظلَّ مرجعاً للنضالِ الوطنيِّ لعقودٍ.

لكن حينَ جاءَ الزمنُ الصعبُ، وحينَ انكسرتِ الجيوشُ العربيَّةُ في نكسةِ حزيران/ يونيو 1967، كان الشقيري هو الضحيَّةَ الأولى، وكأنَّهُ لا بدَّ من تحميلِ شخصٍ ما مسؤوليَّة الهزيمة، حتى لو كان هذا الشخصُ لا يملكُ جيشاً ولا سلاحاً، بل كان يُقاتلُ بالكلمةِ والموقفِ.

فجأةً، بدأ رفاقُ الأمس بالانقلاب عليه، وأولئك الذين صفَّقوا لهُ في البدايات كانوا أوَّل من طالبوا برحيله حين تغيَّرت الموازينُ.

لم يكن خصومُ الشقيري فقط من خارج الصف الفلسطيني، بل كان من بين أبناء القضيَّة من رأى أنَّ زمنهُ قد انتهى، وأنَّ عليه أن يرحلَ. تصاعدتِ الخلافاتُ داخل منظَّمة التحرير، وبدأَت الاتهاماتُ تُحاصِرُهُ من كلِّ الجهاتِ، حتى باتَ يُنظرُ إليهِ على أنَّهُ عبءٌ يجبُ التخلُّصُ منهُ.

كانوا يريدون رجلاً يمكنُ التحكُّمُ بهِ، رجلاً لا يفرِضُ إرادتهُ ولا يُقاتلُ من أجلِ استقلالِ القرارِ الفلسطيني كما فعل الشقيري.

في كانون الأوَّل/ ديسمبر 1967، اضطرَّ إلى تقديم استقالتهِ من رئاسةِ منظَّمةِ التحريرِ الفلسطينيَّةِ، وكأنَّهُ يُقالُ قسراً لا طوعاً. كان يعلمُ أنَّهُ لم يُهزم بسبب فشله، بل لأنَّ اللُّعبةَ السياسيَّة التي أحكمتها بعضُ الأنظمةِ العربيَّة لم تعد تحتملُ رجلاً حرّاً مثلهُ. لقد كان أكبر من أن يكون تابعاً، وأكبر من أن يُؤمَرَ فيُطيعَ، وهذا كان ذنبهُ الوحيدَ.

بعد استقالتهِ، عاش سنواتهِ الأخيرةَ منفياً، في القاهرة أولاً، ثمَّ في تونس ولبنان. كان يُشاهدُ كيف تحوَّلت منظمة التحرير، التي بناها بيديه، إلى شيءٍ آخر لم يَعُد يعرِفُهُ.

رأى كيف تحوَّلت فلسطين إلى ورقةٍ تفاوضيَّةٍ في أيدي الأنظمة، وكيف صارَ مُناضلو الأمسِ يبيعونَ القضيَّةَ في المؤتمرات الدوليَّة. لم يصرخ ولم يُعاتِب، فقد كان يعرفُ أنَّ زمن الرجال الكبار قد انتهى، وأنَّ التاريخ لا يرحمُ من يمضي على طريقِ الصدقِ حتى النهايةِ.

في 25 شباط/ فبراير 1980، رحلَ أحمد الشقيري بصمتٍ، بعيداً عن الضجيج، بعيداً عن الساحات التي جابها يوماً مُنادياً بفلسطين.

أوصى أن يُدفنَ في مقبرة الصَّحابيِّ أبي عبيدةَ في غور الأردن، بعيداً عن العواصم التي طردتهُ، وعن القصور التي خانتهُ، وعن المنابر التي صمَتَت حين كان يحتاجُها.

التاريخ مليءٌ بالخونة، لكنَّهُ يحتفظُ بأسماء العظماء ولو بعد حينٍ. لم يكن أحمد الشقيري رجلاً عاديّاً، بل كان رمزاً لرجلٍ رفض أن يكون أداة في ساحة الآخرين. دفع ثمن حريتهِ، ودفع ثمن استقلال قراره، ودفع ثمن حُبِّهِ لفلسطين، لكنَّ هذا الثمن كان أكثر ممَّا يتحمَّلُهُ قلبُ رجلٍ واحدٍ.

كان أول رئيس لمنظمة التحرير الفلسطينيَّة، لكنَّهُ مات بعيداً عنها. كان صوت فلسطين في الأمم المتَّحدة، لكنَّهُ مات ولم يَعُد يسمعُ سوى صدى خيانتِهِ ممَّن كانوا يوماً رفاقهُ. كان رجلاً صنع الثورة، ثمَّ نبذتهُ الثورةُ حين تغيَّرتِ المصالحُ وتبدَّلتِ الوجوهُ.

في النهايةِ، لا عزاء للأوفياء في هذا العالم، فالتاريخُ يكتبهُ المنتصرونَ، والمنتصرونَ ليسوا دائماً هم الأحقَّ.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى